فصل: تفسير الآيات رقم (149- 150)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 150‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال من التَّوبيخ واللوم والعتاب إلى التَّحذير، ليتوسّل منه إلى معاودة التسلية، على ما حصل من الهزيمة، وفي ضمن ذلك كلّه، من الحقائق الحكمية والمواعظ الأخلاقية والعبر التَّاريخية، ما لا يحصيه مريد إحصائه‏.‏

والطاعة تطلق على امتثال أمْر الآمِر وهو معروف، وعلى الدخول تحت حكم الغالب، فيُقال طَاعَت قبيلة كذا وطوّع الجيش بلاد كذا‏.‏

و ‏{‏الَّذين كفروا‏}‏ شائع في اصطلاح القرآن أن يراد به المشركون، واللفظ صالح بالوضع لكلّ كافر من مشرك وكتابي، مظهر أو منافق‏.‏

والردّ على الأعقاب‏:‏ الارتداد، والانقلاب‏:‏ الرجوع، وقد تقدّم القول فيهما عند قوله‏:‏ ‏{‏أفأين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ فالظاهر أنَّه أراد من هذا الكلام تحذير المؤمنين من أن يُخامرهم خاطر الدخول في صلح المشركين وأمانهم، لأنّ في ذلك إظهار الضّعف أمامهم، والحاجة إليهم، فإذا مالوا إليهم استدرجوهم رويداً رويداً، بإظهار عدم كراهية دينهم المخالف لهم، حتَّى يردّوهم عن دينهم لأنَّهم لن يرضوا عنهم حتَّى يرجعوا إلى ملّتهم، فالردّ على الأعقاب على هذا يحصل بالإخارة والمآل، وقد وقعت هذه العبرة في طاعة مسلمي الأندلس لطاغية الجلالقة‏.‏ وعلى هذا الوجه تكون الآية مشيرة إلى تسفيهِ رأي من قال‏:‏ «لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان» كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏بل الله مولاكم‏}‏‏.‏

ويحتمل أن يراد من الطاعة طاعة القول والإشارة، أي الامتثال، وذلك قول المنافقين لهم‏:‏ لو كان محمد نبيئاً ما قُتل فارجعوا إلى إخوانكم وملّتكم‏.‏ ومعنى الردّ على الأعقاب في هذا الوجه أنَّه يحصل مباشرة في حال طاعتهم إيّاهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بل الله مولاكم‏}‏ إضراب لإبطال ما تضمّنه ما قبله، فعلى الوحه الأول تظهر المناسبة غاية الظهور، لأنّ الطاعة على ذلك الوجه هي من قبيل الموالاة والحلف فناسب إبطالها بالتَّذكير بأنّ مولى المؤمنين هو الله تعالى، ولهذا التَّذكير موقع عظيم‏:‏ وهو أن نقض الولاء والحلف أمر عظيم عند العرب، فإنّ للولاء عندهم شأناً كشأن النسب، وهذا معنى قرّره الإسلام في خطبة حجّة الوداع أو فتح مكة «مَن انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والنَّاس أجمعين» فكيف إذا كان الولاء ولاء سيد الموالي كلّهم‏.‏

وعلى الوجه الثَّاني في معنى ‏{‏إن تطيعوا الَّذين كفروا‏}‏ تكون المناسبة باعتبار ما في طاعة المنافقين من موالاتهم وترك ولاء الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهو خير الناصرين‏}‏ يقوّي مناسبة الوجه الأول ويزيد إرادته ظهوراً‏.‏ و‏{‏خير النَّاصرين‏}‏ هو أفضل الموصوفين بالوصف، فيما يراد منه، وفي موقعه، وفائدته، فالنصر يقصد منه دفع الغلب عن المغلوب، فمتى كان الدفع أقطع للغالب كان النصر أفضل، ويقصد منه دفع الظلم فمتى كان النصر قاطعاً لظلم الظالم كان موقعه أفضل، وفائدته أكمل، فالنصر لا يخلو من مدحة لأنّ فيه ظهور الشَّجاعة وإباء الضيم والنجدة‏.‏

قال ودّاك بنُ ثمَيْل المازني‏:‏

إذا استنجدوا لمْ يسْألوا من دعاهم *** لأية حرب أم بأي مكان

ولكنّه إذا كان تأييداً لظالم أو قاطع طريق، كان فيه دَخَل ومذمّة، فإذا كان إظهاراً لحقِّ المحقّ وإبطاللِ الباطل، استكمل المحمدة، ولذلك فَسّر النَّبيء صلى الله عليه وسلم نصر الظالم بما يناسب خُلُق الإسلام لمّا قال‏:‏ «انصر أخاك ظالماً ومظلوماً» فقال بعض القوم‏:‏ هذا أنصره إذا كان مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً‏؟‏ فقال‏:‏ «أنْ تنصره على نفسه فتكفّه عن ظلمه»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

رجوع إلى تسلية المؤمنين، وتطْمينهم، ووعدهم بالنَّصر على العدوّ‏.‏ والإلقاءُ حقيقته رمي شيء على الأرض ‏{‏فألقوا حبالهم وعصيّهم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 44‏]‏، أو في الماء ‏{‏فألقِيه في اليمّ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏ ويطلق على الإفضاء بالكلام ‏{‏يُلقُون السمع‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 223‏]‏ وعلى حصول الشيء في النفس كأنّ ملقياً ألقاه أي من غير سبق تهيّؤ ‏{‏وألقينا بينهم العداوة والبغضاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ وهو هنا مجاز في الجعل والتَّكوين كقوله‏:‏ ‏{‏وقذف في قلوبهم الرعب‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والرعب‏:‏ الفزع من شدّة خوف، وفيه لغتان الرعْب بسكون العين والرعُب بضم العين وقرأه الجمهور بسكون العين وقرأه ابن عامر، والكسائي بضم العين‏.‏

والبَاء في قوله‏:‏ ‏{‏بما أشركوا بالله‏}‏ للعِوض وتسمّى باء المقابلة مثل قولهم‏:‏ هذه بتلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جزاء بما كسبا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38‏]‏، وهذا جزاء دنيوي رتّبهُ الله تعالى على الإشراك به، ومن حكمته تعالى أن رتّب على الأمور الخبيثة آثاراً خبيثة، فإنّ الشرك لمّا كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرِب النَّفس متحيّراً في العاقبة في تغلّب بعض الآلهة على بعض، فيكون لكلّ قوم صَنم هم أخصّ به، وهم في تلك الحالة يعتقدون أنّ لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة‏.‏ فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة‏.‏ كمَا لا يزال أتباعهم كذلك، والَّذين حالهم كما وصفنا لا يستقرّ لهم قرار في الثِّقة بالنَّصر في حروبهم، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها، وعليه فقوله‏:‏ ‏{‏ما لم ينزل به سلطاناً‏}‏ صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنَّه من أسباببِ إلقاء الرعب في قلوبهم، إذ هم على غير يَقين فيما أشركوا واعتقدوا، فقلوبهم وَجِلة متزلزلة، إذ قد علم كلّ أحد أن الشركاء يَستحيل أن ينزل بهم سلطان‏.‏ فإن قلتَ‏:‏ ما ذكرتَه يقتضي أنّ الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله، فيتعيّن أن يكون الرعب نازلاً في قلوبهم من قبل هذه الوقعة، والله يقول ‏{‏سنلقي‏}‏» أي في المستقبل، قلت‏:‏ هو كذلك إلاّ أنّ هذه الصّفات تستكنّ في النفوس حتَّى يدعو داعي ظهورها، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال، وتقويان وتضعفان، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرّر الانتصار، وقد ينزوي قليلاً إذا انهزم ثُمّ تعود له صفته سرعَى‏.‏ كما وصفه عمرو بن الإطْنابَةِ في قوله‏:‏

وقَوْلي كُلَّمَا جَشَأتْ وجَاشَتْ *** مَكَانَككِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحِي

وقول الحُصَيْننِ بن الحُمَام‏:‏

تَأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجدْ *** لِنَفْسِي حَيَاة مثلَ أنْ أتَقدّمَا

وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار، فالمشركون لما انهزموا بادِئ الأمر يومَ أُحُد، فُلَّت عزيمتهم، ثُمّ لمّا ابتلَى الله المؤمنين بالهزيمة راجعَهم شيء من الشجاعة والازدهاء، ولكنّهم بعد انصرافِهم عَاوَدَتْهم صفاتهم، ‏(‏وتأبَى الطِبَاعُ عَلى الناقل‏)‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏سنُلقي‏}‏ أي إلقاءَ إعادةِ الصفة إلى النُّفوس، ولك أن تجعل السين فيه لمجرّد التَّأكيد أي ألقينا ونُلقي، ويندفع الإشكال‏.‏

وكثير من المفسِّرين ذكروا أنّ هذا الرعب كانت له مظاهر‏:‏ منها أنّ المشركين لمَّا انتصروا على المسلمين كان في مكنتهم أن يوغلوا في استيصالهم إلاّ أنّ الرعب صدّهم عن ذلك، لأنَّهم خافوا أن تعود عليهم الهزيمة، وتدور عليهم الدائرة، ومنها أنَّهم لمَّا انصرفوا قاصدين الرجوع إلى مكَّة عنّ لهم في الطريق ندم، وقالوا‏:‏ لو رجعنا فاقتفينا آثار محمد وأصحابه، فإنّا قتلناهم ولم يبق إلاّ الفَلّ والطَّريد، فلْنرجع إليهم حتَّى نستأصلهم، وبلغ ذلك النَّبيء صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين إلى لقائهم، فانتدبوا، وكانوا في غاية الضعف ومثقّلين بالجراحة، حتَّى قيل‏:‏ إنّ الواحد منهم كان يحمل الآخر ثمّ ينزل المحمول فيحمل الَّذي كان حامله، فقيّض الله مَعْبَد بنَ أبي مَعْبَد الخُزَاعي وهو كافر فجاء إلى رسول الله فقال‏:‏ «إنّ خزاعة قد ساءها ما أصابك ولوَدِدْنا أنَّك لم تُرزأ في أصحابك» ثُمّ لحق معبد بقريش فأدركهم بالرّوْحَاء قد أجمعوا الرجعة إلى قتال المسلمين فقال له أبو سفيان‏:‏ ما وراءَك يا معبد، قال‏:‏ محمد وأصحابه قد خرجوا يطلبونكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرّقون عليكم، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه، فقال‏:‏ ويلك، ما تقول‏؟‏ قال‏:‏ ما أرى أنَّك ترتحلُ حتَّى ترى نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منه على أن قلتُ فيه‏:‏

كَادَت تُهَدّ من الأصوات راحلتي *** إذْ سالت الأرض بالجُرْد الأبابيلِ

تَرْدِي بأسْدٍ كراممٍ لا تَنابِلَةٍ *** عند اللِّقاء ولا مِيللٍ مَعَازِيلِ

فَظَلْتُ أعْدُو وأظُنّ الأرض مائلة *** لمّا سَمَوا برَئيس غير مخذولِ

فوقع الرّعب في قلوب المشركين وقال صفوان بن أميَّة‏:‏ لا ترجعوا فإنِّي أرى أنَّه سيكون للقوم قتال غير الَّذي كان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما لم ينزل به سلطانا‏}‏ أي ما لاسلطان له‏.‏ والسلطان‏:‏ الحجّة والبرهان لأنَّه يتسلّط على النّفس، ونُفي تنزيله وأريد نَفْيُ وجوده، لأنّه لو كان لنَزْل أي لأوْحى الله به إلى النَّاس، لأنّ الله لم يكتم النَّاسَ الإرشادَ إلى ما يجب عليهم من اعتقاد على ألْسنةِ الرسل، فالتنزيل إمَّا بمعنى الوحي، وإمَّا بمعنى نصب الأدلَّة عليهم كقولهم‏:‏ «نزلت الحكمة على ألْسنة العرب وعقول الفرس وأيدي الصّين» ولمَّا كان الحقّ لا يعدو هذين الحالين‏:‏ لأنَّه إمَّا أن يعلم بالوحي، أو بالأمارات، كان نفي تنزيل السلطان على الإشراك كناية عن نفي السلطان نفسه، كقول الشاعر الّذي لا يعرف اسمه‏:‏

لا تُفْزع الأرْنَبَ أهوالُهَا *** ولا تَرَى الضبّ بها يَنْجَحِرْ

وقوله‏:‏ ‏{‏ومأواهم النار‏}‏ ذِكر عقابهم في الآخرة‏.‏ والمأوى مَفعل من أوى إلى كذا إذا ذهب إليه، والمَثْوَى مَفعل من ثَوَى إذا أقام؛ فالنَّار مصيرهم ومقرّهم والمرادُ المشركون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد صدقكم‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 151‏]‏ وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين‏:‏ تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابققِ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم ‏(‏التَّاريخ يعيد نفسه‏)‏ وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله‏:‏ ‏{‏وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وصِدق الوعد‏:‏ تحقيقُه والوفاءُ به، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد‏.‏ قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏‏:‏ ‏{‏من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ يقال‏:‏ صدقني أخوك وكذَبني إذا قال لك الصدق والكذب، وأمَّا المثَل ‏(‏صَدَقَنِي سِنّ بَكْرِه‏)‏ فمعناه صدقني في سنّ بَكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل‏.‏ فنصب وعدَه‏}‏ هنا على الحذف والإيصال، وأصل الكلام صدقَكم في وعده، أو على تضمين صَدَق معنى أعطى‏.‏

والوعد هنا وعد النصر الواقعُ بمثل قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏ أو بخبر خاصّ في يوم أحُد‏.‏

وإذْن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب‏.‏

و ‏(‏إذ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إذ تحسونهم‏}‏ نصب على الظرفية لقوله‏:‏ ‏{‏صدقكم‏}‏ أي‏:‏ صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنَّصر، و‏(‏إذْ‏)‏ فيه للمضيّ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضِي‏.‏

والحَسّ بفتح الحاء القَتل أطلقه أكثر اللغويين، وقَيّده في «الكشاف» بالقتل الذريع، وهو أصوب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ ‏(‏حتَّى‏)‏ حرف انتهاء وغاية، يفيد أنّ مضمون الجملة الَّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الَّتي قبلها، فالمعنى‏:‏ إذ تقتلونهم بتيسير الله، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم‏.‏

و ‏(‏حتَّى‏)‏ هنا جارّة و‏(‏إذا‏)‏ مجرور بها‏.‏

و ‏(‏إذا‏)‏ اسم زمان، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقاً كما هنا، ولعلّ نكتة ذلك أنَّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعاً لقوله‏:‏ ‏{‏تحسونهم‏}‏‏.‏

و ‏(‏إذا‏)‏ هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنَّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية، إذ الشرط لا يكون ماضياً إلاّ بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره‏:‏ انقسمتم، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه وهو قوله‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏ إلى آخرها‏.‏

والفشل‏:‏ الوهن والإعياء، والتنازع‏:‏ التخالف، والمُراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول، إذ كان الفشل، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة، قد حصل أولاً فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الَّذي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسّلام بملازمته وعدم الانصراف منه، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه‏.‏

والتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏في الأمر‏}‏ عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم‏.‏

ومعنى ‏{‏من بعد ما أراكم ما تحبون‏}‏ أراد به النَّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أُحُد للمسلمين، فهزموا المشركين، وولوا الأدبار، حتَّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان، فلمَّا رأى الرماة الَّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين، الغنيمة، التحقوا بالغزاة، فرأى خالد بن الوليد، وهو قائد خيل المشركين يومئذ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد ما أراكم ما تحبون‏}‏ فيكون المجرور متعلّقاً بفشلهم‏.‏ والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم‏.‏

والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب، فيكون المجرور يتنازعه كُلّ من ‏(‏فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم‏)‏، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها، إلى الموصول تنبيهاً على أنَّهم عجّلوا في طلب المَال المحبوب، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه ب ‏(‏إحدى الحسنيين‏)‏ ولم يكن ذلك عن جبن، ولا عن ضعف إيمان، أو قصد خذلان المسلمين، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة‏}‏ تفصيل لتنازعتم، وتبيين ل ‏(‏عصيتم‏)‏، وتخصيص له بأنّ العاصين بعض المخاطبين المتنازعين، إذ الَّذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين، ولذلك أخّرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله‏:‏ ‏{‏وتنازعتم في الأمر‏}‏ وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز، والقرينة واضحة‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏ إرادة نعمة الدنيا وخيرها، وهي الغنيمة، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل، وليس هو مفرّطاً في الآخرة مطلقاً، ولا حاسباً تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتاً عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الَّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بِدالَ على استخفاف بالآخرة، وإنكار لها، كما هو بيّن، ولا حاجة إلى تقدير‏:‏ منكم من يريد الدنيا، فقط‏.‏

وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصياناً، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف، إذ كانوا قالوا‏:‏ إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم، فكانوا متأوَّلين، فإنَّما سمّيت هنا عصياناً لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل، أو لأنّ التأويل كان بعيداً فلم يعذروا فيه، أو لأنَّه كان تأويلاً لإرضاء حبّ المال، فلم يكن مكافئاً لدليل وجوب طاعة الرّسول‏.‏

وإنَّما قال‏:‏ ‏{‏ثم صرفكم عنهم ليبتليكم‏}‏ ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه‏.‏

وعُقب هذا الملام بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏ تسكيناً لخواطرهم، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 43‏]‏، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو، وفيه أيضاً دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفاً من غضب الله تعالى‏.‏

وفي تذييله بقوله‏:‏ ‏{‏والله ذو فضل على المؤمنين‏}‏ تأكيد ما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكموالظاهر أنَّه عفو لأجل التأويل، فلا يحتاج إلى التَّوبة، ويجوز أن يكون عفواً بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏إذ تصعدون‏}‏ متعلّق بقوله‏:‏ ‏{‏ثم صرفكم عنهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ أي دفعكم عن المشركين حين أنتم مصعدون‏.‏

والإصْعاد‏:‏ الذهاب في الأرض لأنّ الأرض تسمّى صعيداً، قال جعفر بن عُلْبة‏:‏

هَوَاي مَع الرَكْب اليَمَانِينَ مُصْعِد ***

والإصعاد أيضاً السَّير في الوادي، قال قتادة والربيع‏:‏ أصعدوا يوم أحُد في الوادي‏.‏ والمعنى‏:‏ تفرّون مصعدين، كأنَّه قيل‏:‏ تذهبون في الأرض أي فراراً، ف إذ‏)‏ ظرف للزمان الَّذي عقب صرف الله إيّاهم وكان من آثاره‏.‏

‏{‏ولا تلون على أحد‏}‏ أي في هذه الحالة‏.‏ واللَّيُّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف، والمراد على أحد منكم، يعني‏:‏ فررتم لا يرحم أحد أحداً ولا يرفق به، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتَّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه‏.‏

وجملة ‏{‏والرسول يدعوكم في أُخراكم‏}‏ حال، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم‏.‏ ودعاء الرسول دعاؤه إيّاهم للثبات والرجوع عن الهزيمة، وهذا هو دعاء الرسول النَّاس بقوله‏:‏ «إليّ عباد الله من يَكُر فله الجنَّة»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأثابكم غما‏}‏ إن كان ضمير ‏{‏فأثابكم‏}‏ ضميرَ اسم الجلالةَ، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده‏:‏ ‏{‏ثم أنزل عليكم من بعد الغم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏ فهو عطف على ‏{‏صَرَفكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ أي ترتّب على الصرف إثابتكم‏.‏ وأصلُ الإثابة إعطاء الثَّواب وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل‏.‏ والغمّ ليس بخير، فيكونُ أثابكم إمّا استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم‏:‏

قَرَينَاكُم فَعَجَّلْنَا قِراكم *** قبيلَ الصبح مِرداة طحونا

أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّاً أي قلقَا لكم في نفوسكم، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله‏:‏ ‏{‏فبشّرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ وفي هذا الوجه بعد‏:‏ لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ، ومقام لا تنديم‏.‏ وإمّا مشاكلةً تقديرية لأنَّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثَّواب، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق‏:‏

أخاف زياداً أن يكون عطاؤُه *** أدَاهِم سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا

وقول الآخر‏:‏

قلتُ‏:‏ اطبُخوا لي جُبَّةً قميصاً ***

ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بغمّ‏}‏ للمصاحبة أي غمّاً مع غمّ، وهو جملة الغموم الَّتي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النَّصر بعد ظهور بَوارقه، ومن الانهزام، ومن قتل من قُتل، وجرح من جرح، ويجوز كون الباء للعوض، أي‏:‏ جازاكم الله غمّاً في نفوسكم عوضاً عن الغمّ الَّذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضّمير في قوله‏:‏ ‏{‏فأثابكم‏}‏ عائداً إلى الرسول في قوله‏:‏ ‏{‏والرسول يدعوكم‏}‏، وفيه بعد، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغمّ‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بغمّ‏}‏ باء العوض‏.‏ والغمّ الأوّل غمّ نفس الرسول، والغمّ الثَّاني غمّ المسلمين، والمعنى أنّ الرسول اغتمّ وحزن لما أصابكم، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمّه لأجلكم جزاءاً على غمّكم لأجله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لكيلا تحزنوا على ما فاتكم‏}‏ تعليل أوّل ل ‏(‏أثابكم‏)‏ أي ألهاكم بذلك الغمّ لئلاّ تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، وما أصابكم من القتل والجراح، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة، وقيل‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ زائدة والمعنى‏:‏ لتحزنوا، فيكون زيادة في التوبيخ والتنديم إن كان قوله‏:‏ ‏{‏أثابكم‏}‏ تهكّماً أو المعنى فأثابكم الرسول غمّاً لكيلا تحزنوا على ما فاتكم‏:‏ أي سكت عن تثريبكم، ولم يظهر لكم إلاّ الاغتمام لأجلكم، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزناً على ما فاتكم، فأعرض عن ذكره جَبراً لخواطركم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أصابكم بالغمّ الَّذي نشأ عن الهزيمة لتعتادوا نزول المصائب، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب‏.‏

وفي الجمع بين ‏{‏ما فاتكم‏}‏ و‏{‏ما أصابكم‏}‏ طباق يؤذن بطباق آخر مقدّر، لأنّ ما فات هو النافع وما أصاب هو من الضّار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏‏}‏

ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ‏}‏‏.‏

الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنزل‏}‏ ضمير اسم الجلالة، وهو يرجّح كون الضمير ‏{‏أثابكم‏}‏ مثله لئلا يكون هذا رجوعاً إلى سياق الضمائر المتقدّمة من قوله‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم الله وعده‏}‏ والمعنى ثمّ أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة‏.‏ وسمّي الأغشاء إنزالاً لأنّه لمّا كان نعاساً مقدّراً من الله لحكمة خاصّة، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال‏:‏ نزلت السكينة‏.‏

والأمَنةُ بفتح الميم الأمن، والنعاس‏:‏ النوم الخفيف أو أوّل النَّوم، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا نوماً ثقيلاً لأخذوا، قال أبو طلحة الأنصاري، والزبير، وأنس بن مالك‏:‏ غشينا نعاس حتَّى أنّ السيف ليسقط من يد أحدنا‏.‏ وقد استجدّوا بذلك نشاطهم، ونسوا حزنهم، لأنّ الحزن تبتدئ خفّته بعد أوّل نومة تعفيه، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها‏.‏ و‏(‏نعاساً‏)‏ بَدل على ‏(‏أمنة‏)‏ بدل مطابق‏.‏

وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخّر أمنة‏:‏ لأنّ أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقّه التقديم على المفعول كما جاء في آية ‏[‏الأنفال‏:‏ 11‏]‏‏:‏ ‏{‏إذ يغشيكم النعاس أمنة منه‏}‏ ولكنّه قدّم الأمنة هنا تشريفاً لشأنها لأنَّها جعلت كالمنزل من الله لنصرهم، فهو كالسكينة، فناسب أن يجعل هو مفعول أنزل، ويجعل النعاس بدلاً منه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ يَغشى بالتحتية على أنّ الضّمير عائد إلى نعاس، وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بالفوقية بإعادة الضّمير إلى أمَنة، ولذلك وصفها بقوله‏:‏ منكم‏}‏‏.‏

‏{‏وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الامر مِن شَئ قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَئ مَّا قُتِلْنَا هاهنا‏}‏‏.‏

لمّا ذكر حال طائفة المؤمنين، تخلّص منه لذكر حال طائفة المنافقين، كما علم من المقابلة، ومن قوله‏:‏ ‏{‏يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية‏}‏، ومِن ترك وصفها بمنكم كما وصف الأولى‏.‏

‏{‏وطائفة‏}‏ مبتدأ وصف بجملة ‏{‏قد أهمتهم أنفسهم‏}‏‏.‏ وخبره جملة ‏{‏يظنون بالله غير الحق‏}‏ والجملة من قوله‏:‏ ‏{‏وطائفة قد أهمتهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والله عليم بذات الصدور‏}‏ اعتراض بين جملة ‏{‏ثم أنزل عليكم‏}‏ الآية‏.‏ وجملة ‏{‏إن الذين تولوا منكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏ الآية‏.‏

ومعنى ‏{‏أهمتهم أنفسهم‏}‏ أي حَدّثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهَمّ وذلك بعدم رضاهم بقدر الله، وبشدّة تلّهفهم على ما أصابهم وتحسّرهم على ما فاتهم مِمّا يظّنونه منجياً لهم لو عملوه‏:‏ أي من الندم على ما فات، وإذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب وتحرّق يمنعهم من الاطمئنان ومن المنام، وهذا كقوله الآتي‏:‏ ‏{‏ليجعل اللَّه ذلك حسرة في قلوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏‏.‏ وقيل معنى ‏{‏أهمّتهم‏}‏ أدخلت عليهم الهَمّ بالكفر والارتداد، وكان رأسُ هذه الطائفة معتّب بن قشير‏.‏

وجملة ‏{‏يظنون بالله غير الحق‏}‏ إمَّا استئناف بياني نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏قد أهمتهم أنفسهم‏}‏ وإمَّا حال من ‏(‏طائفة‏)‏‏.‏ ومعنى ‏{‏يظنون بالله غير الحق‏}‏ أنَّهم ذهبت بهم هواجسهم إلى أن ظنوا بالله ظنوناً باطلة من أوهام الجاهلية‏.‏ وفي هذا تعريض بأنَّهم لم يزالوا على جاهليتهم لم يخلصوا الدين لله، وقد بيّن بعض ما لهم الظنّ بقوله‏:‏ ‏{‏يقولون هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ وهل للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، بقرينة زيادة ‏(‏من‏)‏ قبل النكرة، وهي من خصائص النفي، وهو تبرئة لأنفسهم من أن يكونوا سبباً في مقابلة العدوّ‏.‏ حتَّى نشأ عنه ما نشأ، وتعريض بأنّ الخروج للقتال يوم أحُدُ خطأ وغرور، ويظنّون أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول إذ لو كان لكان مؤيّداً بالنصر‏.‏

والقول في ‏{‏هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ كالقول في ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏ المتقدّم آنفاً‏.‏ والمراد بالأمر هنا شأن الخروج إلى القتال، والأمر بمعنى السيادة الذي منه الإمارة، ومنه أولو الأمر‏.‏

وجملة ‏{‏يقولون هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏يظنّون‏}‏ لأنّ ظنّ الجاهلية يشتمل على معنى هذا القول‏.‏ ومعنى ‏{‏لو كان لنا من الأمر شيء‏}‏ أي من شأن الخروج إلى القتال، أو من أمر تدبير النَّاس شيء، أي رأي ما قتلنا ههنا، أي ما قتل قومنا‏.‏ وليس المراد انتفاء القتل مع الخروج إلى القتال في أحُدُ، بل المراد انتفاء الخروج إلى أحُدُ الَّذي كان سبباً في قتل من قُتل، كما تدلّ عليه قرينة الإشارة بقوله‏:‏ ‏(‏ههنا‏)‏، فالكلام كناية‏.‏ وهذا القول قاله عبد الله بن أُبَي ابن سلول لمّا أخبروه بمن استشهد من الخزرج يومئذ، وهذا تنصّل من أسباب الحرب وتعريض بالنَّبيء ومن أشار بالخروج من المؤمنين الَّذين رغبوا في إحدى الحسنيين‏.‏

وإنَّما كان هذا الظنّ غيرَ الحقّ لأنَّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل، فإنّ لله أمراً وهدياً وله قدَر وتيسير، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم، وليس معصوماً من جريان الأسباب الدنيوية عليه، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالاً، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله‏:‏ كيف كان قتالكم له‏؟‏ فقال أبو سفيان‏:‏ ينال منّا وننال منه، فقال هرقل‏:‏ وكذلك الإيمان حتَّى يتمّ‏.‏ فظنّهم ذلك ليس بحقّ‏.‏

وقد بيّن الله تعالى أنَّه ظنّ الجاهلية الَّذين لم يعرفوا الإيمان أصلاً فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية، والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدّر بالفئة أو الجماعة، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبرّج الجاهلية الأولى‏}‏، والظاهر أنَّه نسبة إلى الجاهل أي الَّذي لا يعلم الدين والتَّوحيد، فإنّ العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم، قال ابن الرومي‏:‏

بجهل كجهل السيف والسيف منتضى *** وحلم كحلم السيف والسيف مغمد

وأطلقت الجهل على عدم العلم قال السموأل‏:‏

فليسَ سواء عالم وجَهول ***

وقال النابغة‏:‏

وليس جَاهل شيءٍ مثلَ مَن علما ***

وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن، وصف به أهل الشرك تنفيراً من الجهل، وترغيباً في العلم، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذمّ في نحو قوله‏:‏ ‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏ ‏{‏ولاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الجاهليّة الأولى‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏إذ جعل الَّذين كفروا في قلوبهم الحَمِيَّة حَمِيَّة الجَاهلية‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقال ابن عبَّاس‏:‏ سمعت أبي في الجاهلية يقول‏:‏ اسقنا كأساً دِهاقاً، وفي حديث حكيم بن حِزام‏:‏ أنَّه سأل النَّبيء صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يتحنّث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم‏.‏ وقالوا‏:‏ شعر الجاهلية، وأيَّامُ الجاهلية‏.‏ ولم يسمع ذلك كُلّه إلاّ بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏غير الحق‏}‏ منتصب على أنَّه مفعول ‏{‏يظنّون‏}‏ كأنَّه قيل الباطلَ‏.‏ وانتصب قوله‏:‏ ‏{‏ظن الجاهلية‏}‏ على المصدر المبيّن للنوع إذ كلّ أحد يعرف عقائد الجاهلية إن كان متلبِّساً بها أو تاركاً بها‏.‏

وجملة ‏{‏يخفون‏}‏ حال من الضّمير في ‏{‏يقولون‏}‏ أي يقولون ذلك في حال نيّتهم غيرَ ظَاهِرِه، ف ‏{‏يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك‏}‏ إعلان بنفاقهم، وأنّ قولهم‏:‏ ‏{‏هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لو كان من الأمر شيء ما قتلنا ههنا‏}‏ هو وإن كان ظاهره صورة العتاب عن ترك مشورتهم فنِيَّتهم منه تخطئة النَّبيء في خروجه بالمسلمين إلى أُحُد، وأنَّهم أسدّ رأياً منه‏.‏

وجملة ‏{‏يقولون لو كان لنا من الأمر شيء‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏يخفون في أنفسهم‏}‏ إذ كانوا قد قالوا ذلك فيما بينهم ولم يظهروه، أو هي بيان لجملة ‏{‏يقولون هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ إذا أظهروا قولهم للمسلمين، فترجع الجملة إلى معنى بدل الاشتمال من جملة ‏{‏يظنّون‏}‏ لأنها لما بينت جملة هي بدل فهي أيضا كالتي بينتها، وهذا أظهر لأجل قوله بعدَه‏:‏ ‏{‏قل لو كنتم في بيوتكم‏}‏ فإنَّه يقتضي أنّ تلك القالة فشت وبلغت الرسولَ، ولا يحسن كون جملة ‏{‏يقولون لو كان‏}‏ إلى آخره مستأنفة خلافا لما في «الكشاف»‏.‏

وهذه المقالة صدرت من مُعَتِّب بن قُشير قال الزبير بن العوّام‏:‏ غشيني النُّعاس فسمعت معتّب بن قشير يقول‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا‏.‏ فحكى القرآن مقالته كما قالها، وأسندت إلى جميعهم لأنَّهم سمعوها ورضوا بها‏.‏

وجملة ‏{‏قل إن الأمر كله لله‏}‏ ردّ عليهم هذا العذر الباطل أي أنّ الله ورسوله غير محتاجين إلى أمركم‏.‏ والجملة معترضة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ كلَّه بالنصب تأكيداً لاسم إنّ، وقرأه أبو عمرو، ويعقوب بالرفع على نيّة الابتداء‏.‏

والجملةُ خبر إنّ‏.‏

‏{‏قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏‏.‏

لقن الله رسوله الجواب عن قولهم‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا‏.‏ والجواب إبطال لقولهم، وتعليم للمؤمنين لدفع ما عسى أن يقع في نفوسهم من الريب، إذا سمعوا كلام المنافقين، أو هو جواب للمنافقين ويحصل به علم للمؤمنين‏.‏ وفُصلت الجملة جرياً على حكاية المقاولة كما قرّرنا غير مرّة‏.‏ وهذا الجواب جار على الحقيقة وهي جريان الأشياء على قَدر من الله والتسليممِ لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتض ترك الأسباب، لأنّ قدر الله تعالى وقضاءه غير معلومَين لنا إلاّ بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفاً عن مصادفة قدر الله لمأمولنا، فإن استفرغنا جهودنا وحُرمنا المأمول، علمنا أنّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا‏.‏ فأمَّا ترك الأسباب فليس من شأننا، وهو مخالف لما أراد الله منّا، وإعراض عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القدَر‏.‏ والمعنى‏:‏ لو لم تكونوا ههنا وكنتم في بيوتكم لخرج الَّذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم الَّتي اضطجعوا فيها يوم أُحُد أي مصارعهم فالمراد بقوله‏:‏ ‏{‏كتب‏}‏ قدّر، ومعنى ‏{‏برز‏}‏ خرج إلى البراز وهو الأرض‏.‏

وقرأ الجمهور باء ‏(‏بيوتكم‏)‏ بالكسر‏.‏ وقرأه أبو عمرو، وورش عن نافع، وحفص، وأبو جعفر بالضم‏.‏

والمضاجع جمع مضجع بفتح الميم وفتح الجيم وهو محلّ الضجوع، والضجوع‏:‏ وضع الجنب بالأرض للراحة والنَّوم، وفعله من باب منع ومصدره القياسي الضجْع، وأمَّا الضجوع فغير قياسي، ثمّ غلب إطلاق المضجع على مكان النَّوم قال تعالى‏:‏ ‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏ وفي حديث أمّ زرع‏:‏ «مَضْجَعه كمَسلّ شَطْبَة» فحقيقة الضجوع هو وضع الجنب للنَّوم والراحة وأطلق هنا على مصارع القتلى على سبيل الاستعارة، وحسّنها أنّ الشهداء أحياء، فهو استعارة أو مشاكلة تقديرية لأنّ قولهم، ما قُتلنا ههنا يتضمَّن معنى أنّ الشهداء كانوا يَبْقون في بيوتهم متمتَّعين بفروشهم‏.‏

‏{‏وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏‏.‏

‏{‏وليبتلي الله ما في صدوركم‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏لكيلا تحزنوا على ما فاتكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏ وما بينهما جمل بعضها عطف على الجملة المعلّلة، وبعضها معترضة، فهو خطاب للمؤمنين لا محالة، وهو علَّة ثانية لقوله‏:‏ ‏{‏فأثابكم عما بغم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏‏.‏

والصّدُور هنا بمعنى الضّمائر، والابتلاءُ‏:‏ الاختبار، وهو هنا كناية عن أثره، وهو إظهاره للنَّاس والحجّة على أصحاب تلك الضّمائر بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏والله عليم بذات الصدور‏}‏ كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم اللَّه الذين ءامنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏‏.‏

والتمحيص تخليص الشيء ممَّا يخالطه ممَّا فيه عيب له فهو كالتزكية‏.‏ والقلوب هنا بمعنى العقائد، ومعنى تمحيص ما فيه قلوبهم تطهيرها ممَّا يخامرها من الريب حين سماع شُبه المنافقين الّتي يبثُّونها بينهم‏.‏

وأطلق الصدور على الضّمائر لأنّ الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني، وفي الحديث‏:‏ «الإثم ما حاك في الصّدر» وأطلق القلب على الاعتقاد لأنّ القلب في لسان العرب هو ما به يحصّل التفكّر والاعتقاد‏.‏ وعُدّي إلى الصّدور فعل الابتلاء لأنَّه اختبار الأخلاق والضّمائر‏:‏ ما فيها من خير وشَرّ، وليتميّز ما في النفس‏.‏ وَعُدِّيَ إلى القلوب فعل التمحيص لأنّ الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كلّ خير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏‏}‏

استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم، وأراد ب ‏{‏يوم التقى الجمعان‏}‏ يومَ أُحُد، و‏(‏استزلّهم‏)‏ بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين، والزلل مستعار لفعل الخطيئة، والسين والتاء فيه للتأكيد، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النَّابغة‏:‏

وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة *** أبا جابر فاسْتَنْكحوا أم جابر

أي نكحوا‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغنى اللَّه‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أبى واستكبر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏‏.‏ ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول، فهو زلل واقع‏.‏

والمراد بالزّلل الانهزام، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النَّصر قال تعالى‏:‏ ‏{‏وثبت أقدامنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏‏.‏

‏(‏والباء في ‏{‏ببعض ما كسبوا‏}‏ للسببية وأريد ‏{‏ببعض ما كسبوا‏}‏ مفارقة موقفهم، وعصيان أمر الرّسول، والتنازع، والتعجيل إلى الغنيمة، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول عليه الصلاة والسّلام بالخروج، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد‏.‏ وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية‏.‏

ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله‏:‏ ‏{‏قل لو كنتم في بيوتكم‏}‏ انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم، فلم يتفطّنوا إلى السبب، والتبس عليهم بالمقارن، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطئ وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح، وتزكية النفوس، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين، وتعظيمه عندهم، وتنفيرهم من الشيطان، والأفعاللِ الذميمة، ومعصية الرسول، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين‏.‏ وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏ثم صرفكم عنهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ الآيات‏.‏ وضمير ‏{‏منكم‏}‏ راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا‏.‏ وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة‏.‏

وللمفسّرين في قوله‏:‏ ‏{‏استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا‏}‏ احتمالات ذكرها صاحب «الكشاف» والفخر، وهي بمعزل عن القصد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد عفا الله عنهم‏}‏ أعيد الإخبار بالعفْو تأنيساً لهم كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏‏}‏

تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضاً‏.‏ والكلام استئناف‏.‏ والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطّف بهم جميعاً بعد تقريع فريق منهم الَّذين تولّوا يوم التقى الجمعان‏.‏ واللام في قولهم‏:‏ ‏{‏لإخوانهم‏}‏ ليست لام تعدية فعل القول بل هي لام العلّة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً‏}‏ لأنّ الإخوان ليسوا متكلّماً معهم بل هم الَّذين ماتوا وقُتلوا، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب، أي من الخزرج المؤمنين، لأنّ الشهداء من المؤمنين‏.‏

و ‏(‏إذ‏)‏ هنا ظرف للماضي بدليل فعليّ ‏(‏قالوا وضَربوا‏)‏، وقد حذف فعل دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏ما ماتوا‏}‏ تقديره‏:‏ فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو‏.‏

والضرب في الأرض هو السفر، فالضرب مستعمل في السير لأنّ أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللَّه‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏، وعلى مطلق السفر كما هنا، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 94‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏ والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأنّ ذلك هو الَّذي يلومهم عليه الكفار، وقيل‏:‏ أريد بالضرب في الأرض التجارة‏.‏

وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار‏.‏

و ‏{‏غُزًّى‏}‏ جمع غاز‏.‏ وفُعَّل قليل في جمع فَاعل الناقص‏.‏ وهو مع ذلك فصيح‏.‏ ونظيره عُفَّى في قول امرئ القيس‏:‏

لَهَا قُلُب عُفَّى الحِيَاضضِ أُجُونُ ***

وقوله‏:‏ ‏{‏ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم‏}‏ علّة ل ‏(‏قَالوا‏)‏ باعتبار ما يتضمّنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيهاً للنَّهي عن التشبيه بهم أي فإنَّكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحِقَكم أثره كما لحقهم، فالإشارة بقوله‏:‏ ‏(‏ذلك‏)‏ إلى القول الدال على الاعتقاد، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه‏.‏ وقيل‏:‏ اللام لام العاقبة، أي‏:‏ لا تكونوا كالَّذين قالوا فترتّب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏ليجعل‏}‏ على هذا الوجه من صلة ‏(‏الّذين‏)‏، ومن جملة الأحوال المشبّه بها، فيعلم أنّ النّهي عن التّشبّه بهم فيها لما فيها من الضرّ‏.‏

والحَسرة‏:‏ شدّة الأسف أي الحُزن، وكانَ هذا حسرة عليهم لأنَّهم توهّموا أنّ مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم، وأنَّهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهّفين على مافتهم‏.‏ والمؤمن يبذل جهده فإذا خَابَ سَلَّم لْحكم القدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157- 158‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

ذكر ترغيباً وترهيباً، فجعل الموت في سبيل الله والموت في غير سبيل الله، إذا أعقبتهما المَغفرة خيراً من الحياة وما يجمعون فيها، وجعل الموت والقتل في سبيل الله وسيلة للحشر والحساب فلْيَعْلَم أحد بماذَا يُلاقي ربّه‏.‏ والواو للعطف على قوله‏:‏ ‏{‏لا تكذبوا كالذين كفروا‏}‏ وعلى قوله‏:‏ ‏{‏والله يحي ويميت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ولئن قتلتم‏}‏ موطّئة للقسم أي مؤذنة بأنّ قبلها قسماً مقدّراً، ورد بعده شرط فلذلك لا تقع إلاّ مع الشرط‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لمغفرة‏}‏ هي لام جواب القسم‏.‏ والجوابُ هو قوله‏:‏ ‏{‏لمغفرة من الله ورحمة خير‏}‏ لظهور أنّ التقدير‏:‏ لمغفرة ورحمة لكم‏.‏ وقرأه نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ مِتّم بكسر الميم على لغة الحجاز لأنَّهم جعلوا مَاضيهُ مثل خَاف، اعتبروه مكسور العين وجعلوا مضارعه من باب قَام فقالوا‏:‏ يموت، ولم يقولوا‏:‏ يمات، فهو من تداخل اللغتين‏.‏ وأمَّا سُفلى مضر فقد جاءوا به في الحالين من باب‏:‏ قام فقرأوه‏:‏ مُتُّم‏.‏ وبها قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عَمرو، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب‏.‏ وقرأ الجمهور، ‏{‏ممَّا تجمعون‏}‏ بتاء الخطاب وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب على أنّ الضّمير عائد إلى المشركين أي خير لكم من غنائم المشركين الّتي جمعوها وطمعتم أنتم في غنمها‏.‏

وقُدّم القتل في الأولى والموتُ في الثانية اعتباراً بعطف ما يظنّ أنّه أبْعد عن الحكم فإنّ كون القتل في سبيل الله سبباً للمغفرة أمر قريب، ولكن كون الموت في غير السبيل مثل ذلك أمر خفي مستبعد، وكذلك تقديم الموت في الثَّانية لأنّ القتل في سبيل الله قد يظنّ أنَّه بعيد عن أن يعقبه الحشر، مع ما فيه من التفنّن، ومن ردّ العجز على الصدر وجعل القتل مبدأ الكلام وعوده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

الفاء للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام السابق الَّذي حُكي فيه مخالفة طوائف لأمر الرسول من مؤمنين ومنافقين، وما حكي من عفو الله عنهم فيما صنعوا‏.‏ ولأنّ في تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة مظاهر كثيرة من لين النَّبيء صلى الله عليه وسلم للمسلمين، حيث استشارهم في الخروج، وحيث لم يثرِّبهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم، ولمَّا كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرّسول إيّاهم، ألاَن الله لهم الرسول تحقيقاً لرحمته وعفوه، فكان المعنى‏:‏ ولقد عفا الله عنهم برحمته فَلاَن لهم الرسول بإذن الله وتكوينه إيّاه راحماً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏

والباء للمصاحبة، أي لنتَ مع رحمة الله‏:‏ إذ كان لينه في ذلك كلّه ليناً لا تفريط معه لشيء من مصالحهم، ولا مجاراةً لهم في التساهل في أمر الدّين، فلذلك كان حقيقاً باسم الرحمة‏.‏

وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي، أي‏:‏ برحمة من الله لا بغير ذلك من أحوالهم، وهذا القصر مفيد التعريض بأنّ أحوالهم كانت مستوجبة الغلظ عليهم، ولكن الله ألاَن خلق رسوله رحمة بهم، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمَّة‏.‏

وزيدت ‏(‏ما‏)‏ بعد باء الجرّ لتأكيد الجملة بما فيه من القصر، فتعيّنَ بزيادتها كون التَّقديم للحصر، لا لمجرد الاهتمام، ونبّه عليه في «الكشاف»‏.‏

واللِينُ هنا مجاز في سعة الخلق مع أمّة الدعوة والمسلمين، وفي الصفح عن جَفاء المشركين، وإقالة العثرات‏.‏ ودلّ فعل المضيّ في قوله‏:‏ ‏{‏لنت‏}‏ على أنّ ذلك وصف تقرّر وعرف من خُلقه، وأنّ فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خلقَه كذلك ‏{‏واللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، فخلق الرسول مُناسب لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله، لأنّ الرسول يجيء بشريعة يبلّغها عن الله تعالى، فالتبليغ متعيّن لا مصانعة فيه، ولا يتأثّر بخلق الرسول، وهو أيضاً مأمور بسياسة أمَّته بتلك الشريعة، وتنفيذها فيهم، وهذا عمل له ارتباط قوي بمناسبة خُلق الرسول لطباع أمّته حتَّى يلائم خلقه الوسائل المتوسَّل بها لحمل أمَّته على الشَّريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم‏.‏

أرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم مفطوراً على الرحمة، فكان لِينه رحمة من الله بالأمَّة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها، فلذلك جعل لينه مصاحباً لرحمةٍ من الله أودعها الله فِيه، إذ هو قد بعث للنَّاس كافّة، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أولَ شيء لحكمةٍ أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هم مبلغي الشَّريعة للعالم‏.‏

والعرب أمَّة عُرفت بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامةِ الفطرة‏.‏ وسرعةِ الفهم‏.‏ وهم المتلقُّون الأوّلون للدين فلم تكن تليق بهم الشّدة والغلظة، ولكنّهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم، ليتجنّبوا بذلك المكابرةَ الَّتي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحقّ‏.‏

وورد أن صفح النَّبيء صلى الله عليه وسلم وعفوه ورحمته كان سبباً في دخول كثير في الإسلام، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب الشفاء‏.‏

فضمير ‏{‏لهم‏}‏ عائد على جميع الأمَّة كما هو مقتضى مقام التَّشريع وسياسة الأمَّة، وليس عائداً على المسلمين الَّذين عصوا أمر الرسول يوم أُحُد، لأنَّه لا يناسب قوله بعده‏:‏ ‏{‏لانفضوا من حولك‏}‏ إذ لا يُظنّ ذلك بالمسلمين، ولأنَّه لا يناسب قوله بعده‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ إذا كان المراد المشاورة للاستعانة بآرائهم، بل المعنى‏:‏ لو كنت فظّاً لنفرك كثير ممّن استجاب لك فهلكوا، أو يكون الضّمير عائداً على المنافقين المعبّر عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وطائفة قد أهمتهم أنفسهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏ فالمعنى‏:‏ ولو كنت فظّاً لأعلنوا الكفر وتفرّقوا عنك، وليس المراد أنَّك لنت لهم في وقعة أُحُد خاصّة، لأنّ قوله بعده‏:‏ ‏{‏ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك‏}‏ إلخ ينافي ذلك المحمل‏.‏

والفَظّ‏:‏ السيء الخلق، الجافي الطبع‏.‏

والغليظ القلب‏:‏ القاسِيه، إذ الغلظة مجاز عن القسوة وقلّة التسامح، كما كان اللين مجازاً في عكس ذلك، وقالت جواري الأنصار لعمر حين انتهرهنّ «أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله» يردن أنت فظّ وغليظ دون رسول الله‏.‏

والانفضاض‏:‏ التفرق‏.‏ و‏{‏من حولك‏}‏ أي من جهتك وإزائك، يقال‏:‏ حَوْله وحَوْلَيه وحَوَاليْه وحَوَالَه وحِيَالَه وبِحِيَالِه‏.‏ والضّمير للذين حَوْل رسول الله، أي الَّذين دخلوا في الدّين لأنَّهم لا يطيقون الشدّة، والكلام تمثيل‏:‏ شبّهت هيئة النفور منه وكراهية الدخول في دينه بالانفضاض من حوله أي الفرار عنه متفرّقين، وهو يؤذَّن بأنَّهم حوله متّبعون له‏.‏

والتَّفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فاعف عنهم‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏لنت لهم‏}‏ الآية، لأنّ جميع الأفعال المأمور بها مناسب للين، فأمَّا العفول والاستغفار فأمرهما ظاهر، وأمَّا عطف ‏{‏وشاورهم‏}‏ فلأنّ الخروج إلى أُحُد كان عن تشاور معهم وإشارتهم، ويشمل هذا الضّميرُ جميع الَّذين لاَن لهم صلى الله عليه وسلم وهم أصحابه الَّذين حوله سواء من صدر منهم أمر يوم أحُد وغيرهم‏.‏

والمشاورة مصدر شاور، والاسم الشُّورَى والمَشُورة بفتح الميم وضم الشِّين أصلها مَفْعُلة بضمّ العين، فوقع فيها نقل حركة الواو إلى الساكن‏.‏ قيل‏:‏ المشاورة مشتقّة من شار الدابّة إذا اختبر جَريها عند العرض على المشتري، وفعل شار الدابّة مشتقّ من المِشْوَار وهو المكان الَّذي تُركض فيه الدوابّ‏.‏ وأصله معرّب ‏(‏نَشْخُوَار‏)‏ بالفارسية وهو ما تبقيه الدابّة من علفها‏.‏ وقيل‏:‏ مشتقّة من شار العسل أي جناه من الوقَبَة لأنّ بها يستخرج الحقّ والصّواب، وإنَّما تكون في الأمر المهمّ المشكل من شؤون المرء في نفسه أو شؤون القبيلة أو شؤون الأمة‏.‏

و ‏(‏أل‏)‏ في الأمر للجنس، والمراد بالأمر المهمّ الَّذي يؤتمر له، ومنه قولهم‏:‏ أمْر أمِر، وقال أبو سفيان لأصحابه في حديث هرقل‏:‏

«لقد أمِر أمْرُ ابن أبي كَبشة، إنَّه يَخافُه مَلِك بَنِي الأصفر»‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بالأمر أمر الحرب فاللام للعهد‏.‏

وظاهر الأمر أنّ المراد المشاورة الحقيقية الَّتي يقصد منها الاستعانة برأي المستشارَيْن بدليل قوله عقبه‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ فضمير الجميع في قوله‏:‏ ‏{‏وشاورهم‏}‏ عائد على المسلمين خاصة‏:‏ أي شاور الَّذين أسلموا مِن بين مَن لنت لهم، أي لا يصدّك خطل رأيهم فيما بدا منهم يوم أحُد عن أن تستعين برأيهم في مواقع أخرى، فإنَّما كان ما حصل فلتة منهم، وعشرة قد أقَلْتَهم منها‏.‏

ويحتمل أن يراد استشارة عبد الله بن أبي وأصحابه، فالمراد الأخذ بظاهر أحوالهم وتأليفهم، لعلّهم أن يُخلصوا الإسلام أو لا يزيدوا نفاقاً، وقطعاً لأعذارهم فيما يستقبل‏.‏

وقد دلّت الآية على أن الشُّورى مأمور بها الرسُول صلى الله عليه وسلم فيما عبّر عنه ب ‏(‏الأمر‏)‏ وهو مُهمّات اللأمّة ومصالحها في الحرب وغيره، وذلك في غير أمر التَّشريع لأنّ أمر التَّشريع إن كان فيه وحي فلا محيد عنه، وإن لم يكن فيه وحي وقلنا بجواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في التَّشريع فلا تدخل فيه الشورى لأنّ شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلّة لا للآراء، والمجتهد لا يستشير غيره إلاّ عند القضاء باجتهاده‏.‏ كما فعل عُمر وعُثمان‏.‏

فتعيّن أنّ المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون الأمَّة ومصالحها، وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 38‏]‏ واشترطها في أمر العائلة فقال‏:‏ ‏{‏فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏‏.‏ فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلّها‏:‏ وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد، ومصالح الأمَّة‏.‏

واختلف العلماء في مدلول قوله‏:‏ ‏{‏وشاورهم‏}‏ هل هو للوجوب أو للندب، وهل هو خاصّ بالرسول عليه الصلاة السَّلام، أو عامّ له ولولاة أمور الأمَّة كلّهم‏.‏

فَذهب المالكية إلى الوجوب والعموم، قال ابن خُوَيْز منداد‏:‏ واجب على الولاة المشاورة، فيُشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدّين، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب، ويشاورون وجوه النَّاس فيما يتعلَّق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتّاب والعمّال والوزراء فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها‏.‏ وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنَّها سبب للصّواب فقالَ‏:‏ والشورى مِسبار العقل وسبب الصّواب‏.‏ يشير إلى أنَّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمَّة، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الشورى من قواعد الشَّريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا ما لا اختلاف فيه‏.‏ واعتراض عليه ابن عرفة قوله‏:‏ فعزله واجب ولم يعترض كونَها واجبة، إلاّ أنّ ابن عطية ذكر ذلك جازماً به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه، يعني ولا يزيد تركُ الشورى على كونه تركَ واجب فهو فسق‏.‏

وقلت‏:‏ من حفظ حجَّة على من لم يحفظ، وإنّ القياس فيه فارق معتبر فإنّ الفسق مضرّته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات، ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التَّشريع إلاّ لدليل‏.‏

وعن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب، ولتقتدي به الأمّة، وهو عامّ للرسول وغيره، تطييباً لنفوس أصحابه ورفعاً لأقدارهم، وروى مثله عن قتادة، والرّبيع، وابن إسحاق‏.‏ وردّ هذا أبو بكر أحمدُ بن عليّ الرازي الحنفي المشهور بالجَصّاص بقوله‏:‏ لو كان معلوماً عندهم أنَّهم إذا استَفرغوا جهدهم في استنباط الصّواب عمَّا سُئِلُوا عنه، ثُمّ لم يكن معمولاً به، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم، بل فيه إيحاشُهم فالمشاورة لم تفد شيئاً فهذا تأويل ساقط‏.‏ وقال النووي، في صدر كتاب الصلاة من «شرح مسلم»‏:‏ الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار‏.‏ وقال الفخر‏:‏ ظاهر الأمر أنَّه للوجوب‏.‏ ولم ينسب العلماء للحنفية قولاً في هذا الأمر إلا أنّ الجَصّاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏‏)‏‏:‏ هذا يدلّ على جلالة وقع المَشُورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصّلاة ويدلّ على أنَّنا مأمورون بها‏.‏ ومجموع كلامي الجصّاص يدلّ أن مذهب أبي حنيفة وجوبها‏.‏

ومن السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنَّبيء صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وسفيان، قالا‏:‏ وإنَّما أمر بها ليقتدى به غيره وتشيع في أمَّته وذلك فيما لا وحي فيه‏.‏ وقد استشار النَّبيء صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لبدر، وفي الخروج إلى أحُد، وفي شأن الأسرى يوم بدر، واستشار عموم الجيش في رَدِّ سبي هوازن‏.‏

والظاهر أنَّها لا تكون في الأحكام الشرعية لأنّ الأحكام إن كانت بوحي فظاهر، وإن كانت اجتهادية، بناء على جواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية، فالاجتهاد إنَّما يستند للأدلَّة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمَّته لا يستشير في اجتهاده، فكيف تجب الاستشارة على النَّبيء صلى الله عليه وسلم مع أنَّه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطإ عليه فإنَّه لا يُقرّ على خطإ باتّفاق العلماء‏.‏ ولم يزل من سنّة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي في مصالح المسلمين، قال البخاري في كتاب الاعتصام من «صحيحه»‏:‏ «وكانت الأئمة بعد النَّبيء صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم، وكان القُرّاء أصحابَ مشُورة عمَرَ‏:‏ كُهولاً كانوا أو شُبَّاناً، وكان وقّافاً عند كتاب الله»‏.‏ وأخرج الخطيب عن عليّ قال‏:‏ «قلت‏:‏ يا رسول الله الأمر ينزل بعدَك لم يَنزل فيه قرآن ولم يسْمع منك فيه شيء قال‏:‏ اجمعوا له العابِد من أمّتي واجعلوه بينكم شُورى ولا تقضوه برأي واحد» واستشار أبو بكر في قتال أهل الردّة، وتشاور الصّحابةُ في أمر الخليفة بعد وفاة النَّبيء صلى الله عليه وسلم وجعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بعده في ستَّة عيّنهم، وجعل مراقبة الشورى لِخمسين من الأنصار، وكان عمر يكتب لعمّاله يأمرهم بالتَّشاور، ويتمثّل لهم في كتابه بقول الشاعر ‏(‏لم أقف على اسمه‏)‏‏:‏

خَلِيلَيّ ليسَ الرأيُ في صَدرِ واحد *** أشِيرا عَلَيّ بالَّذِي تَرَيَانِ

هذا والشورى ممَّا جبل لله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبّة الصلاح وتطلّب النجاح في المساعي، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتَّشاور في شأنه إذ قال للملائكة‏:‏ ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، إذ قد غَنِي الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنَّه عرض على الملائكة مراده ليكون التَّشاور سنّة في البشر ضرورة أنّه مقترن بتكوينه، فإنّ مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه، ولمَّا كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين‏.‏ ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى عليه السَّلام فيما حكى الله عنه بقوله‏:‏ ‏{‏فماذا تأمرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 110‏]‏‏.‏ واستشارت بلقيس في شأن سليمان عليه السلام فيما حكى الله عنها بقوله‏:‏ ‏{‏قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون وإنَّما يلهي النَّاس عنها حبّ الاستبداد، وكراهية سماع ما يخالف الهوى، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة، ولذلك يهرع المستبدّ إلى الشورى عند المضائق‏.‏ قال ابن عبد البرّ في بهجة المجالس‏:‏ الشورى محمودة عند عامّة العلماء ولا أعلم أحداً رضِي الاستبداد إلاّ رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، وكلا الرجلين فاسق‏.‏ ومثَل أوّلهما قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏

واستَبَدّت مَرّة واحِدة *** إنَّمَا العَاجِز مَن لا يستبدّ

ومَثل ثانيهما قول سَعْد بن نَاشِب‏:‏

إذا هَمّ ألقَى بين عينيه عزمه *** ونَكَّب عن ذِكْر العواقب جانباً

ولم يستَشِرْ في أمره غَير نفسه *** ولم يَرْضَ إلا قَائم السيف صاحباً

ومن أحسن ما قيل في الشورى قول بشار بن برد‏:‏

إذا بَلغ الرأيُ المَشُورة فاستَعن *** بحزم نصيح أو نصيحة حازم

ولا تحسب الشُورى عليك غضاضة *** مَكانُ الخَوافي قُوّة للقَوادِم

وهي أبيات كثيرة مثبتة في كتب الأدب‏.‏

وقوله‏:‏ فإذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ العزم هو تصميم الرأي على الفعل وحُذف متعلَّق ‏(‏عزمت‏)‏ لأنَّه دلّ عليه التفريع عن قوله‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏، فالتقدير‏:‏ فإذا عزمت على الأمر‏.‏ وقد ظهر من التفريع أنّ المراد‏:‏ فإذا عزمت بعد الشورى أي تبيّن لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فعزمت على تَنفيذه سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى أم كان رأياً آخر لاح للرّسول سدادُه فقد يَخْرج من آراء أهل الشورى رأي، وفي المثل‏:‏ «مَا بَيْنَ الرأيَيْن رأي»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فتوكل على الله‏}‏ التوكُّل حقيقته الاعتماد، وهو هنا مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله، وهو شأن أهل الإيمان، فالتوكّل انفعال قلبي عقلي يتوجّه به الفاعل إلى الله راجياً الإعانة ومستعيذاً من الخيبة والعوائق، وربَّما رافقه قول لساني وهو الدعاء بذلك‏.‏ وبذلك يَظهر أن قوله‏:‏ ‏{‏فتوكل على الله‏}‏ دليل على جواب إذَا، وفَرع عنه، والتقدير‏:‏ فإذَا عزمت فَبَادر ولا تتأخّر وتَوكَّل على الله، لأنّ للتأخّر آفاتتٍ، والتردّد يضيّع الأوقات، ولو كان التَّوكل هو جواب إذا لما كان للشورى فائدة لأنّ الشورى كما علمت لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب على أحسن وجه وأقربه، فإنّ القصد منها العمل بما يتضّح منها، ولو كان المراد حصول التوكّل من أوّل خطور الخاطر، لما كان للأمر بالشورى من فائدة‏.‏ وهذه الآية أوضح آية في الإرشاد إلى معنى التَّوكل الَّذي حرَف القاصرون ومن كان على شاكلتهم معناه، فأفسدوا هذا الدين من مبناه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله يحب المتوكلين‏}‏ لأنّ التوكّل علامة صدق الإيمان، وفيه ملاحظة عظمة الله وقدرته، واعتقادُ الحاجة إليه، وعدم الاستغناء عنه وهذا، أدب عظيم مع الخالق يدلّ على محبّة العبد ربّه فلذلك أحبَّه الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

استئناف نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏ولئن قتلتم في سبيل الله أو مِتُّم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 157‏]‏ أو عن قوله‏:‏ ‏{‏لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏ الآية‏.‏

ولو حُمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبَاراً بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون، ولا يجهل مؤمن أنّ الله إذا قَدّر نَصر أحَدٍ فلا رادّ لنصره، وأنَّه إذا قدّر خَذْلَه فلا ملجأ له من الهزيمة، فإنّ مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته، مؤمن بوحدانيته، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته، فيتعيّن أن يكون هذا الخبر مراداً به غيرُ ظاهر الإخبار، وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريراً لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة، حتَّى لا يحزنوا على ما فات لأنّ ردّ الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس، وعزاء على المصيبة، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوماً في بعض الأيَّام، وخَذْله إيّاهم في بعضها، لا يكون إلاّ لحِكَم وأسباب، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخَذل كما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏يأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأثابكم غماً بغم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏ وقوله الآتي‏:‏ ‏{‏أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليْها قلتم أنى هذا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 165‏]‏ وعليهم التطلّب للأسباب الَّتي قُدر لهم النَّصر لأجلها في مثل يوم بَدر، وأضدادها الَّتي كان بها الخَذل في يَوم أحُد، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها، وزجّ بها في مسارح العبر، ومراكض العظات، والسابقون الجيادُ، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك‏.‏ وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه‏:‏ لأنَّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏ إلى هنا، جمع لهم كُلّ ذلك في كلام جامع نافععٍ في تلقِّي الماضي، وصالححٍ للعمل به في المستقبل، ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّاً على تنزيل العالم منزلة الجاهل، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى‏.‏ فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر‏.‏

والنَّصر‏:‏ الإعانة على الخلاص من غلب العَدوّ ومُريد الإضرار‏.‏

والخِذْلانُ ضدّه‏:‏ وهو إمساك الإعانة مع القدرة، مأخوذ من خَذلت الوَحشية إذا تخلفت عن القطيع لأجل عجز ولدها عن المشي‏.‏

ومعنى ‏{‏إن ينصركم‏}‏ ‏{‏وإن يخذلكم‏}‏ إنْ يُرد هَذا لَكم، وإلاّ لما استقام جواب الشرط الأوّل، وهو «‏{‏فلا غالب لكم‏}‏ إذ لا فائدة في ترتيب عدم الغلب على حصول النصر بالفِعل، ولا سيما مع نفي الجنس في قوله‏:‏ ‏{‏فلا غالب لكم‏}‏، لأنَّه يصير من الإخبار بالمعلوم، كما تقول‏:‏ إن قمتَ فأنتَ لست بقَاعد‏.‏ وأمَّا فعل الشرط الثَّاني وهو‏:‏ ‏{‏وإن يخذلكم‏}‏ فيقدّر كذلك حَمْلاً على نظيره، وإن كان يستقيم المعنى بدون تأويل فيه‏.‏ وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الآية‏.‏

وجَعْل الجواب بقوله‏:‏ ‏{‏فلا غالب لكم‏}‏ دون أن يقول‏:‏ لا تغلبوا، للتنصيص على التَّعميم في الجواب، لأنّ عموم ترتّب الجزاء على الشرط أغلبي وقد يكون جزئياً أي لا تغلبوا من بعض المغالبين، فأريد بإفادة التعميم دفع التّوهم‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏فمن ذا الذي ينصركم من بعده‏}‏ إنكاري أي فلا ينصركم أحد غيره‏.‏

وكلمة ‏{‏من بَعده‏}‏ هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاوزة‏:‏ أي فمن الَّذي ينصركم دونَه أو غيرَه أي دون اللَّه، فالضّمير ضمير اسم الجلالة لا محالة، واستعمال ‏(‏بعد‏)‏ في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يهديه من بعد الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ وأصل هذا الاستعمال أنه كالتمثيلية المكنية‏:‏ بأن مثلت الحالة الحاصلة من تقدير الانكسار بحالة من أسلم الذي استنصر به وخذله فتركه وانصرف عنه لأن المقاتل معك إذا ولى عنك فقد خذللك فحذف ما يدل على الحالة المشبه بها ورمز إليه بلازمه وهو لفظ ‏{‏من بعده‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ تذييل قصد به الأمر بالتَّوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى‏:‏ من أسباببٍ عادية وهي الاستعداد، وأسباببٍ نفسانية وهي تزكية النفس واتّباع رضَى الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

الأظهر أنَّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض رعلى الغرض وموقعه عقب جملة‏:‏ ‏{‏إن ينصركم الله فلا غالب لكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏‏.‏ الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذْل بيده، وذلك يستلزم التَّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفاً بمن يُرضونه‏.‏ وإذ قد كانت هذه النَّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات، وهو الغُلول ليعلموا أنّ ذلك لا يُرضي الله تعالى فيحذَروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذراً فهذه مناسبة التَّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أُحُد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم‏.‏ والغلُول‏:‏ تعجّل بأخذ شيء من غال الغنيمة‏.‏

ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسباً لتعقيب آية النصر بآية الغلول، فإنّ غزوة أحُد الَّتي أتت السورة على قصّتها لم يقع فيها غُلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسِّرين من قضية غلوللٍ وقعت يومَ بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أُحُد فضلاً على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حُنين الواقععِ بعد غزوة أحُد بخمس سنين‏.‏

وقرأ جمهور العشرة‏:‏ يُغَلّ بضمّ التحتية وفتح الغين وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو وعاصم بفتح التحتية وضَمّ الغين‏.‏

والفعل مشتقّ من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش، والغلول مصدر غير قياسي، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقاً‏.‏

وصيغة ‏{‏وما كان لنبي أن يُغلّ‏}‏ صيغة جحود تفيد مبالغة النَّفي‏.‏ وقد تقدّم القول فيها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنُّبَوة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏]‏ في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النَّهي‏.‏ والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النَّبيء عن أن يَغلُو لأنّ الغلول في غنائم النَّبيء صلى الله عليه وسلم غلول للنَّبيء، إذ قسمة الغنائم إليه، وأمَّا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النَّبيء لا يَغُلّ أنَّه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغُلول إلى النَّبيء مجاز عقلي لملابسة جيش النَّبيء نبيئَهم ولك أن تجعله على تقدير مضاف‏.‏ والتقدير‏:‏ ما كَان لجيش نَبيء أن يَغُلّ‏.‏

ولبعض المفسّرين من المتقدّمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سَماجة‏.‏

ومعنى و‏{‏من يغلل يأت بما غل يوم القيامة‏}‏ أنَّه يأتي به مشهَّراً مفضوحاً بالسرقة‏.‏

ومن اللَّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ‏:‏ أنّ مَزْيَداً رجلاً من الأعراب سرق نافجة مسك فقيل له‏:‏ كيفَ تسرقها وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ إذَنْ أحمِلُها طيّبةَ الريح خفيفة المحمل‏.‏

وهذا تلميح وتلقي المخاطب بغير ما يترقّب‏.‏ وقريب منه ما حكي عن عبد الله بن مسعود والدرك على مَن حكاه قالوا‏:‏ لمّا بعث إليه عثمان ليسلم مصحفه ليحرقه بعد أن اتَّفق المسلمون على المصحف الَّذي كُتب في عهد أبي بكر قال ابن مسعود‏:‏ إنّ الله قال‏:‏ ‏{‏ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة‏}‏ وإنِّي غالّ مصحفي فمن استطاع منكم أن يَغُلّ مصحفه فليفعل‏.‏ ولا أثق بصحَّة هذا الخبر لأنّ ابْن مسعود يعلم أنّ هذا ليس من الغلول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثم توفى كل نفس ما كسبت‏}‏ تنبيه على العقوبة بعد التفضيح، إذ قد علم أنّ الكلام السابق مسوق مساق النَّهي، وجيء ب ‏(‏ثمّ‏)‏ للدّلالة على طول مهلة التفضيح، ومن جملة النُّفوس الَّتي توفَّى ما كسبت نفس من يغلل، فقد دخل في العموم‏.‏

وجملة ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها وهي ‏{‏توفى كل نفس ما كسبت‏}‏‏.‏

والآية دلّت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من المغنم بغير إذن أمير الجيش، وهو من الكبائر لأنَّه مِثل السرقة، وأصحّ ما في الغلول حديث «الموطأ»‏:‏ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من خيبر قاصداً وادي القُرى وكان له عبد أسود يدعى مِدْعَما، فبينما هو يحطّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فقتله، فقال النَّاس‏:‏ هنيئاً له الجنَّةُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كلاّ والَّذي نفسي بيده إن الشَّملة التي أخذها يومَ خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً ‏"‏

ومن غلّ في المغنم يؤخذ منه مَا غَلَّه ويؤدّب بالاجتهاد، ولا قطع فيه باتِّفاق، هذا قول الجمهور، وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأحمد بن حنبل، وجماعة‏:‏ يحرق متاع الغالّ كُلّه عدَا سِلاحَه وسرجه، ويردّ ما غلّه إلى بيت المال، واستدلّوا بحديث رواه صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي، عن عمر بن الخطاب‏:‏ أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه ‏"‏ وهو حديث ضعيف، قال الترمذي سألت محمداً يعني البخاري عنه فقال‏:‏ «إنَّما رواه صالح بن محمد، وهو منكر الحديث‏.‏ على أنَّه لو صَحّ لوجَبَ تأويله لأنّ قواعد الشَّريعة تدلّ على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلّق بالظواهر وليس من التفقّه في شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 163‏]‏

‏{‏أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏ثم توفى محل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏ فهو كالبيان لتوفية كلّ نفس بما كسبت‏.‏

والاستفهام إنكار للمماثلة المستفادة من كاف التَّشبيه فهو بمعنى لا يستوون‏.‏ والاتِّباع هنا بمعنى التطلّب‏:‏ شبه حَال المتوّخي بأفعاله رضَى الله بحال المتطلِّب لطِلْبَة فهو يتبعها حيث حلّ ليقتنصها، وفي هذا التَّشبيه حسن التنبيه على أنّ التحصيل على رضوان الله تعالى محتاج إلى فرط اهتمام، وفي فعل ‏(‏باء‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏كمن بآء بسخط من الله‏}‏ تمثيل لحال صاحب المعاصي بالَّذي خرج يطلب ما ينفعه فرجع بما يضرّه، أو رجع بالخيبة كما تقدّم في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏16‏)‏‏.‏ وقد علم من هذه المقابلة حال أهل الطاعة وأهل المعصية، أوْ أهللِ الإيمان وأهللِ الكفر‏.‏

وقوله‏:‏ هم درجات عند الله‏}‏ عاد الضّمير ل ‏{‏من اتَّبع رضوان الله‏}‏ لأنَّهم المقصود من الكلام، ولقرينة قوله‏:‏ ‏{‏درجات‏}‏ لأن الدرجات منازل رفعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ تشريف لمنازلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏‏}‏

استئناف لتذكير رِجال يوممِ أُحُد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم‏.‏ ومناسبةُ ذكره هنا أنّ فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظّاً عظيماً، إذ قد شاع تصْبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم، وله مزيد ارتباط بقوله‏:‏ ‏{‏فبما رحمة من الله لنت لهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏، وكذلك جاءت آي هذا الغرض في قصة أُحُد ناشئاً بعضها عن بعض، متفنّنة في مواقعها بحسب ما سمحت به فرصُ الفراغ من غرض والشروع في غيره فما تجد طراد الكلام يغدو طَلْقاً في حلبة الاستطراد إلا وتجد له رواحاً إلى مُنْبَعثه‏.‏

والمنّ هنا‏:‏ إسداء المِنّة أي النِّعمة، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه مثل الَّذي في قوله‏:‏ ‏{‏لا تبطلوا صدقاتكم بالمَن والأذى‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏، وإن كان ذكرُ هذا المنّ مَنّاً بالمعنى الآخر‏.‏ والكلّ محمود من الله تعالى لأنّ المنّ إنَّما كان مذموماً لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه، وطوْل الله ليس بمجحود‏.‏

والمراد بالمؤمنين هنا المؤمنون يومئذ وهم الَّذين كانوا مع النَّبيء بقرينة السياق وهو قوله‏:‏ إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم‏}‏ أي من أمَّتهم العربية‏.‏

و ‏(‏إذ‏)‏ ظرف ل ‏(‏مَنّ‏)‏ لأنّ الإنعام بهذه النِّعمة حصل أوقات البعث‏.‏

ومعنى ‏{‏من أنفسهم‏}‏ المماثلةُ لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سبباً لقوّة التواصل، وهي هنا النسب، واللغة، والوطن‏.‏ والعرب تقول‏:‏ فلان من بني فلان من أنفسهم، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بوَلاء أو لصق، وكأنّه هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربياً يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه، وكونه يتكلّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه جاراً لهم وربيّا فيهم يعجّل لهم التصديق برسالته، إذ يكونون قد خبَروا أمره، وعلموا فضله، وشاهدوا استقامته ومعجزاته‏.‏ وعن النقاش‏:‏ قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ تغْلِب، وبذلك فسّر‏:‏ «قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى»‏.‏ وهذه المنّة خاصّة بالعرب ومزيّة لهم، زيادة على المنّة ببعثة محمد على جميع البشر، فالعرب وهم الذين تلقّوا الدعوة قبل الناس كلّهم، لأنّ الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقّوه التلقّي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعواناً على عموم الدعوة، ولمن تخلّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيّة وهو معظمها، إذ لم يَفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكمّلان لحسن التلقّي، ولذلك كان المؤمنون مدّة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصّة بحيث إنّ تلقّيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقرّ الدين‏.‏

وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ ‏"‏ من دخل في الإسلام فهو من العرب ‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يتلوا عليهم آياتيه‏}‏ أي يقرأ عليهم القرآن، وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى، كما تقدّم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان‏.‏

والتزكية‏:‏ التطهير، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام‏.‏

وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرُهم بحفظ ألفاظه، لتكون معانيه حاضرة عندهم‏.‏

والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال واختلال النظام، وذلك من معنى الحكمة، وتقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏‏.‏

وعطفُ الحكمة على الكتاب عطف الأخصّ من وجه على الأعمّ من وجه، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو‏:‏ ‏{‏ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ لا يُلدَغُ المؤمن من جحر مرّتين ‏"‏ وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فَرْض الصلاة والحجّ‏.‏

وجملة ‏{‏وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين‏}‏ حال، وإنْ مخففة مهملة، والجملة بعدها خبر عن ضمير الشأن محذوف، والجملة خبره على رأي صاحب «الكشاف»، وهو التحقيق إذ لا وجه لزوال عملها مع بقاء معناها، ولا وجه للتفرقة بينها وبين المفتوحة إذا خففت فقد قدّروا لها اسماً هو ضمير الشأن، بل نجد المكسورة أولى ببقاء العمل عند التخفيف لأنها أمّ الباب فلا يزول عملها بسهولة، وقال جمهور النحاة‏:‏ يبطل عملها وتكون بعدها جملة، وعلى هذا فالمراد بإهمالها أنّها لا تنصب مفردين بل تعمل في ضمير شأن وجملة إمَّا اسمية، أو فعلية فعلها من النواسخ غالباً‏.‏

ووصف الضلال بالمبين لأنّه لشدّته لا يلتبس على أحد بشائبة هُدى، أو شبهة، فكان حاله مبيّناً كونَه ضلالاً كقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا هذا سحر مبين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والمراد به ضلال الشرك والجهالة والتقاتل وأحكام الجاهلية‏.‏

ويجوز أن يشمل قوله‏:‏ ‏{‏على المؤمنين‏}‏ المؤمنين في كل العصور ويراد بكونه من أنفسهم أنّه من نوع البشر‏.‏ ويراد بإسناد تعليم الكتاب والحكمة إليه ما يجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي، لأنّ تعليم ذلك متلقّي منه مباشرة أو بالواسطة‏.‏